06‏/10‏/2011

نكهة حصار

هل علىّ أن أعرف كم حرف أحتاج أن أكتب، كي أقول أنّ اشتياقك جارف، وأن حاجتي للثرثرة إلى جوارك في أوجها، وكم حرف يلزمني كي أقول لك كم أغنية جميلة سمعتها وكان في جمالها ما يكفي لأذكرك، وكم مقطع شدّني إليه كما تشد العاشقة صدره إلى صدرها، كم حرف أحتاج كي أخبرك عن آخر قصيدة علق ذهني بجزء منها، ترى هل يلزم أن يكون كتفي بكتفك، وهل يلزم أن أحرّك شفاهي كي أقول أنّ الحياة لها أن تكون ما دامت تضج بالمتشردين أمثالك أينما ثقفوا.

تسارعت الأيام في آخرة فترة كنا نلتقي فيها بصورة مُخيفة، لدرجة أننا حاولنا أن نصنع كل الأشياء ـ التي كنا نود أن نصنعها بتروي ـ دفعة واحدة، وقبل أن يمنعنا الإحتلال من حقنا في أن نجلس في مقهى، أو في غرفة رثة، أو على عتبة مركز ثقافي وسط المدينة، أو على الأرصفة الكُثر، حاولنا أن نقول كل شيء، وأن نعبر عن أقاصي معاني المعنى، وحاولنا ـ ولم نفلح تماماً ـ في أن ننخرط في فكرة، وأن نتحدث عن الإنسان، وعن الحُب، وعن أمهات الشهداء والأسرى، وعن الموسيقى، وعن الشعر، وعن الوطن الكبير الكبير، وقليلاً ونادراً عن السياسة، فكل ما كنا نحاوله كان مرهوناً بالوقت المتبقى لوجودك في القُطاع. حاولنا أن نقرأ كل القصائد التي غرّقتنا معاً، وأن نسمع كل الأغاني الوطنية والغجرية معاً، وأن نتوه في لوحه معاً، وأن نلتقط بعض الصور للذكرى معاً، وأن نحنّك أفواهنا بآخر حلوى نابلسية معاً، إيماناً ـ ودون إنتباه ـ أننا خُلقنا ـ فقط ـ لكي نأكل الحلوى.

هجرت جنوب البلاد إلى ضفة النهر الشرقية، وتركتني أحاصر الحصار وحدي، وآخر هجر الشمال صاعداً إلى حلمه، ترك بطاقة التموين ومساعدات وكالة الغوث، ترك طابعات الكُتب خاصتهم، وحمل حقيبته الزرقاء نحو سماء المطلق الأزرق. قل لي ولن أعتب، هل حملت شيء من أصدقاءك مع المتاع! وتُرى يا أزرق، كم من التيه ستمضي في سيناء موسى وأنت أعلمنا بالتاريخ وبالجغرافيا، وهل ستقطع الصحراء أم سيكون حنينك للخيام أعتى، أعرف أن الحنين صفة اللاجيء الهارب من اللاشيء إلى محاولة الوطن، ولا أساومك عليه، لكن قل لي أنك ستذكر غرفتي ولوحاتي، قل لي ستذكر المقهى وثرثرتي، قل لي ستذكر مكتبتي وفواصلي، قل لي ستمضي خارج السجن محاصراً بي.

وبعد سيل الإغتراب المستعر أدق رقم هاتفه مُتوقعاً أن أسمع صوت أبيه أو أمه، جارته أو جده، وأصاب بحسرة الصوت وبحته، ويقول لي أن جندياً على الحدود قال له ارجع فرجع، ويقول لي أيضاً أنه حاول السفر الطويل واكتشف أنه لا يقدر على مغادرتي، وأنه الآن عائد إلى حصاره الخاص، وأنه هارب إلى حضنه.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق