05‏/06‏/2011

النفَس الأخير

مما لا شك فيه أن الكتابة الملتهبة المشحونة بعبارات النار والعرق هي بطريقة أو بأخرى مجاز حرب، فبالإمكان أن يراوغ الكاتب ويشيد من كلامه نصباً يرتعش من خمر عشيقين في السرير ويحسبه القاريء الرزين قولاً في تكتيكات الحروب، وفي جهة أخرى فيشربه ذا الهوى عشقاً سائغاً، وما هذا النثر إلا محاولة لإعادة إنتشار الذاكرة الجماعية وتمركزها خوفاً عليها من الفقد، فخذ ما يكفيك، واترك الباقي كي يشرب الآخرين، لإن هذا الورد لم يزد مدينتنا إلا عطشا.

منذ البداية، لم يكن الازدحام حدثاً غريباً على الحي، لأن ما سيكون مفاجئاً ومباغتاً ليس هذا وإنما سيحدث بعد قليل، ولأن التلاميذ كانوا يُسلّموا فصولهم لطلاب الفترة الثانية، فقد كان شارع المدرسة مليء بأطفال من الحواري المجاورة كلها، أطنان من البراءة والشقاوة ومن اللون الأزرق تسير عبر الشارع المبلل من أثر الشتاء في اتجاهين، إما إلى البيت، أو إلى المدرسة، ولأن الرجال العائدون من السوق كانوا يحتلون جزءاً من هذا التكوين اليومي المثير، وشيوخ إلى المسجد مُسرعين، وباعة على الرصيف متمترسين، ونساء يمسكن أيدي أطفال، ونساء يحملن أكياس، ونساء يدخلن البيوت، ونساء لا يدخلن البيوت، وسيارات بيضاء وصفراء تحرّك واجهاتها تلميعاً للزجاج بعد المطر الخفيف ويكفيها أن يقف مؤشر السرعة عند أربعين كيلومتر في الساعة، وتقنع، ولأنها بداية الأسبوع، لم يكن هذا الإزدحام حادثاً غريباً إطلاقاً.

وفي الأنحاء المجاورة لم يكن الأمر يختلف كثيراً، إلا في درجة الإزدحام، ولم تكن هذه الأعداد الكبيرة من الناس التي تسكن الأحياء والمُخيمات تثير في المُتأمل دهشة من نوع خاص، فقط أناس تمشي إلى عمالتها ومصالحها، وأناس تركب السيارات التي تقف أينما أراد الراكب لا قوانين المرور، الوجوه هنا كلها متشابهة، وأينما وقعت عينيك تجد شحوباً غارقاً في التفكير، كل الناس هُنا تفكر وتفكر في الخلاص الفردي أو الجماعي، أو في اللاشيئ، ولا أحد يفتتح الصباح في وجه حقول ورد، إنما غابات من السواد ترتسم على وجوه الناس كدراً أو فقراً، وكأن هذا القوم برمته لا يعدو سوى كونه كتلة من الهموم تمشي على الأرض، وليس هذا في مجمله وصفاً لأرض إليوت الخراب، إنما هو محاولة للإلمام بتجاعيد الرجال، وعرق جباههم، ولتعريف ما يمكن تعريته مما يشغل خيالاتهم.

أما الوطن فقد كان كعادته كل صباح، يحمل أمتعته ويتمشى محاولاً تعريف نفسه: فهو تلك الأوشام التي طُبعت على الأجساد ثم هرمت، هو الحدوتة والأسطورة القديمة التي حدّث عنها المُحدّثون ولازالوا يفعلون، وهو شجرة على شباك أي منفى، وهو حالة الوعي الدائمة، حالة النعي الدائمة، الحالة الشعورية التي لم يختلط بها مادية ما أو برتقال ما، الوطن هو ما يتبقى من رائحة المدرسة والإذاعة الصباحية، هو المفقود الرومانسي التاريخي، وهو المادة اللاصقة التي لا فكاك منها، هو انتصارات رجل الدين، وجبروت العسكري، ودموع العاشق، وهو اندلاق الأطفال من طفولتهم إلى الشارع، ووحي الشاعر، ومُلهم المغنّي، وألوان الرسّام وريشته، هو رائحة الحطب، ومخدة من ريش نعام، وبيت طيني، وخيال جامح حول خواصر النساء.

وفي الصباح المليء بالمزاريب وبطرقات الماء الخفيفة على ألواح الحديد، وسط رخاء المفردات هذا، وبدون انتباه، بدأت الحرب، ولما انتهت المدينة من تجميع اللحم المطحون مع المعادن ووضعه في أكياس ولمّه أكوام أكوام، أفاق الجميع من كابوسهم وبدأت رحلة اليُتم والترمّل.